جبال البلقاء الاخباري- ولربما سيتمنى إنسان القرن الحادي والعشرين، المخترق بالأضواء والعيون الراصدة، لو أنه ما عرف ولا عاش ثورة الاتصال الخامسة التي جعلت منه كائناً متاحاً يقطن على مقربة كبسة زر من كل طالب له. فأنت لا تستطيع الاختباء في كوكبك الحقيقي/الافتراضي مهما أُتيت من خفايا وزوايا، وهذا يذكرنا بصرخة موشومة على مدخل الأمم المتحدة في النيويورك المأخوذة من قصيدة للطفلة ميلان مورو: لو كانت الأرض مربعة الشكل، لوجدنا زاوية للاختباء. لكن الأرض كروية؛ وعلينا مواجهة العالم.
العالم اليوم ليس كرة متاحة لكل ركلة رقيب عتيد فحسب. بل هو أصغر من القرية التي تنبأ بها العالم الكندي مارشال ماكلوهان صورةً لعالمنا، بعد أن صغّرته تكنولوجيا الاتصال، فغدا قرية يعرفُ الكلُّ فيها الكلَّ. لا تغيب شاردة عن أحد أو واردة. كلُّ شيء مشاع ومتاح. من قتار الطعام إلى أسرار البيوت، وهفهفات النفوس.
وقد فات ماكلوهان الذي لم يعش حتى يرى نبوءته بيانا عياناً (توفي مطلع ستينات القرن الماضي). نسي أن يقول، أن عالمنا تضاءل حتى حجم برتقالة أو لنقل صار بحجم هاتف نقال؛ لكنه صار منزوع دسم الألفة، وأنه يعرّيك بأكثر ما يغطيك. وأنه جعلنا نتخذ استراتيجية القنافذ وفلسفتها، نتقارب أو نتباعد بحذر؛ كي لا تدمينا أشواكنا، باستمراء قراءة غسيلنا المنشور.
سنتذكر معاناة الأمهات في غسيل الثياب. فالجيل الشباب الذي ولد بعد الغسالة الأتوماتيكية، التي تتيح الملابس مهندمة للارتداء، لا يعرف شيئا عن الغلي والدعك والفرك والصوبنة والعصر والنشر على حبال تجففها رعاية الشمس. فكل بيت كان لا يخلو من حبل مرفوع قدر قامة إمرأة، في حوشه أو على سطحه.
قبل عقود خطفت الصحافة مصطلح نشر الغسيل ليواكب الفضائح والخبايا المبثوثة بكل وسخها أو نصاعتها. وهو يشير إلى ما كانت تشي به تلك العملية من فضح لأسرار البيوت، وكشف لذوق أهلها، ونظافة صاحبة البيت، وحسن تدبيرها، وقدرتها في تنميق الألون، وجعلها لوحة تهفها رياح الحبال.
واليوم خسرت الصحافة التقليدية معركتها مع مواقع التواصل الاجتماعي في هذا المجال تحديداً. فهذه المواقع غدت حبالا ممدودة في كل الفضاءات ينشر عليها كل غسيل وسخ أو مهترئ أو هبيان أو ملطخ بالأوحال. ما من شيء مخفي في هذا الوقت. عالم اليوم بلا أسرار. عالمنا كبير وصغير في الوقت نفسه. كبير بحجم مجرة وصغير كهاتف نقال.
رمزي الغزوي