الأحد , 02 أيلول , 2018 :: 12:23 م
أخلاق الوظائف والمهن...د هاني خليل عابد
جبال البلقاء الاخباري: في تاريخ حضارتنا دراسات وكتب رائعة عنيت بتعميق الرقابة الذاتية عند أرباب الوظائف ،والصنائع ،من خلال دعوتها إلى استشعار أنّ الوظائف والمهن لم تحصل لأصحابها إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى ، فهي نعم واجب شكرها ،وشكرها لا ينحصر فقط بالذكر اللساني ،ولكنه يشمل المجال العملي ،المتمثل في رعاية الوظيفة ، والالتزام بمتطلباتها ،والوفاء بعقودها ، وتحري الحلال ، وعدم استغلالها في طرق الشبهات والمحرمات ، فمن تلكم الدراسات ، كتاب (معيد النعم ومبيد النقم) للشيخ الإمام قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب السبكي المتوفى سنة 771 هـ حيث ذكر في كتابه أمثلة كثيرة للوظائف والمهن ،وما يلزم القائم في هذه الوظائف من رعايتها حق الرعاية ، وذلك أخذاً من قوله تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم :7) فقال ونحن نرى أن نحضَّ غالب الناس بأمثلة تستوعب معظم الوظائف التي استقرَّت عليها قواعد المسلمين في هذا الزمان، ونذكر ممَّا يطالب به صاحب تلك الوظائف يوم القيامة، ويخشى عليه في الدنيا والدين سوء العاقبة بسبب التفريط فيه، ما يكون موقظًا له من سِنَّة الغفلة ومرشدًا إن شاء اللَّه تعالى، لعلَّ اللَّه ينفع به أقوامًا.(معيد النعم للسبكي 21) ومن روائع هذا الكتاب أنه تطرق للوظائف والمهن التربوية والدينية وكذا الدنيوية ، فتراه يقدم النصيحة للمدرس فيقول:وحقّ عليه أن يُحسن إلقاء الدرس، وتفهيمه للحاضرين. ئم إن كانوا مبتدئين فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات، بل يدرِّبهم ويأخذهم بالأهون فالأهون، إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق. و نصح خطباء الجمعة بأن لا يطيلوا الخطبة على الناس؛ فإن الخطيب وراءه الشيخ والضعيف والصغير وذا الحاجة. ولا يأتي بألفاظ قلقة يصعب فهمها على غير الخاصَّة، بل يذكر الواضح من الألفاظ. ولا يتكلَّف السجع إلى غير ذلك ممَّا ذكره الفقهاء.
أما الوظائف الدنيوية فتكلم على العديد منها شائد العمائر (وهو ما يعرف في زماننا بمتعهد البناء ) وربما يكون فرد أو مؤسسة فيقول :" شائد العمائر: ومن حقِّه اللطف والرفق بالبنَّائين، وألَّا يستعمل أحدًا، فوق طاقته، ولا يُجيعه؛ بل يمكّنه من الأكل، أو يُطعمه بحسب ما يقع الشرط عليه. وعليه أن يُطلق سراحه أوقات الصلوات؛ فإنَّها لا تدخل تحت الإجارة. وما يعتمده بعضهم من تسخير البنّائين، وإجاعتهم وإعطائهم من الأجرة دون حقهم، واستعمالهم فوق طاقتهم من أقبح الحرمات، وأشنع الجراءات على اللَّه تعالى في خلقه."ويبين أنه على المكاري (من يعمل تأجير الرواحل سابقا) وهو ما يعرف بوسائط النقل حاليا فعليه أن لا يستعمل وسائل الركوب في الإعانة على المعاصي ،وينصح اللحام أن يذبح من الأنعام ما كان فيه حياة مستقرة وتعرف بكثرة الحركة عند ذبحها ، وعلى من يتعامل بصرف النقود أن يبيع نقدا ،وأن لا يتأخر نسيئة ، فعلى صاحب كل مهنة الحذر من الحرام والشبهات، وأن يجعل وظيفته تضيف لمجتمعه الصبغة الحضارية الإنسانية خلافاً لمن نحا بأنّ الغاية تبرر الوسيلة ، بل لا بد أن يراعي الموظف وكذا الصانع الحقوق العامة والخاصة، وحتى التوازن البيئي ،ومثال ذلك نصيحة السبكي لمن يعمل طياناً: ومن حقِّه ألَّا يُطين مكانًا قبل الكشف عنه: هل فيه شيء من الحيوانات أو لا؛ فأنت ترى كثيرًا من الطيانين يعجلون في وضع الطين على الجدار، وربَّما صادف ما لا يحل قتله لغير مأكله من عصفور ونحوه، فقتله، واندمج في الطين؛ ويكون حينئذٍ خائنًا للَّه تعالى من جهة قتله هذا الحيوان، ولصاحب الجدار من جهة جعله مثل ذلك ضمن جداره. وبهذا يتبين لنا قدر كتاب معيد النعم في العناية بواجبات الوظائف والصنائع وجعلها من أبواب كسب الثواب والقرب من الوهاب لا أن تكون طريقاً لجمع الذنوب وظلم الناس .
|