جبال البلقاء الاخباري: كتاب الكسب هو لأحد أعلام الفقه في الإسلام :" محمد بن الحسن الشيباني (المتوفى: 189هـ)، و يعتبر الكتاب من المراجع المتقدمة عن الفكر الاقتصادي في الحضارة الإسلامية ،وذلك أن المؤلف رحمه الله فقيه من تلاميذ الإمام الكبير أبي حنيفة ،ذلكم الإمام الذي قال فيه الشافعي الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة(تهذيب التهذيب لابن حجر 10/450)، وكذلك فإنّ محمد بن الحسن قرأ الموطأ على الإمام مالك بن أنس حتى أصبح من رواة الموطأ المشهورين ،ولا يغيب عنا أيضاً اجتماعه بالشافعي وتدارسه معه فيما يهم الأمة وما تحتاجه الأمة من فقه ،ومثلما أن الشافعي انتفع من لقاءاته الفقهية مع علماء عصره الذين تعددت مناهجهم في البحث ،وفيما يقدمونه في المسائل الشرعية من اجتهادات وخاصة عند تعارض الأدلة فقاده ذلك إلى استخلاص أصول الفقه ، فإنّنا نجد محمد بن الحسن يساهم في مجال وتقديم التصور الشرعي في موضوع المال ، بما يوجه الأمة للعناية بهذا الجانب ،.ويوضح كيفية الكسب المشروع ، الذي يعود على الفرد والأمة بالخيرات.
لذا فإن من الأفكار المهمّة في الكتاب ما يلي:
1- بيان التصور الشرعي للاكتساب ، فيقول الاكْتِسَاب :تَحْصِيل المَال بِمَا يحل من الْأَسْبَاب/ ومقصوده بما يحل من الأسباب كالبيع ،والتجارة ، والشركات المشروعة ، وكل كسب يقوم على الوسائل المشروعة .
2- تناول المؤلف رحمه الله مشروعية السعي في طلب الرزق، وبيّن أن العمل من منهج الأنبياء ومن أمثلة ذلك قوله تعالى عن داود عليه السلام :"وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ(الأنبياء :80) قلت وهو منهج نبينا محمد صلوات الله عليه ومنهج أصحابه وكتب الحديث غنية بالشواهد ومن عاد لكتاب البيوع في صحيح البخاري وتأمله وعى ذلك .
3- الرد على من ترك العمل بحجة تعارضه مع التوكل ،ويذكر المؤلف قصة عمر رَضِي الله عَنهُ عندما مرّ بِقوم فَقَالَ من أَنْتُم قَالُوا المتوكلون ،فَقَالَ أَنْتُم المتأكلون إِنَّمَا المتَوَكل رجل ألْقى حَبَّة فِي بطن الأَرْض وتوكل على ربه(نوادر الأصول في أحاديث الرسول للحكيم الترمذي)
3-الرد على من ترك الكسب بحجة وجود ما هو أهم منه ،وهذا ناشئ عن وهم وفهم خاطئ لما جاء في حديث النبي صلوات الله عليه : «إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(رواه أبو داود) قال صاحب كتاب الكسب وَتَأْويل الْآثَار المروية فِيمَا إِذا اشْتغل النَّاس كلهم بالزراعة وأعرضوا عَن الْجِهَاد حَتَّى يطْمع فيهم عدوهم وكل ذَلِك مَرْوِيّ فِي حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ وقعدتم عَن الْجِهَاد وذللتم حَتَّى يطْمع فِيكُم فَأَما إِذا اشْتغل بَعضهم بِالْجِهَادِ وَبَعْضهمْ بالزراعة فَفِي عمل الْمُزَارعَة معاونة للمجاهد وَفِي عمل الْمُجَاهِد دفع عَن الْمزَارِع وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤْمِنُونَ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا (الكسب 1/64) قلت ولفظ الحديث عند البخاري عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك أصابعه(رواه البخاري)
4- وحذر صاحب الكتاب من الظواهر السلبية التي ترافق ما ينتج عن كثرة المال من الكسب ،ومن أخطرها
أ-التعالي على الفقراء ، والتباهي بنعم الله في المأكل والملبس بما يكسر قلوبهم ، وينتج هذا من حالة الطغيان التي تنشأ أحيانا عن الغنى قال تعالى : " كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى(العلق : 6-7)
ب-الإسراف فحذر من بعض الأمثلة التي يستهين بها الناس ، وذلك مثل أكل الخبز من الوسط ،ومنها أن يمسح بيده الخبز أثناء الأكل ويتركه ، ولا ريب أن مرجعه في ذلك القرآن الكريم يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الأعراف :31) وقَوْلُهُ: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] لذا لا بد من استشعار المسؤولية في ضبط المال ،كسباً وإنفاقاً، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ»(رواه الترمذي)